المسؤولية الطبية بعد الإسلام.. من تطبب ولم يكن بالطب معروفا فأصاب نفسا فما دونها فهو ضامن

إن المستند الرئيسي لفقهاء الشريعة الإسلامية في تحديد مسؤولية الطبيب هو الحديث النبوي الشريف، وهو ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي والحاكم وصححه الأخير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تطبب ولم يعلم منه الطب قبل ذلك فهو ضامن وفي رواية لأبي نعيم "من تطبب ولم يكن بالطب معروفا فأصاب نفسا فما دونها فهو ضامن".
لقد نقل ابن قيم الجوزية هذا القول في كتابه الطب النبوي ثم فصّل فقال: قلت الأقسام خمسة:

- القسم الأول:
طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها ولم تجن يده فتولد من فعله المأذون من جهة الشارع ومن جهة من يطبه تلف العضو أو النفس أو ذهاب صفة، فهذا لا ضمان عليه اتفاقا فإنها سِرايةُ مأذون فيه.
وهكذا كما إذا ختن الصبي في وقت وسنه قابل للختان، وأعطى الصنعة حقها، فتلف العضو أو الصبي لم يضمن.
وكذلك إذا بطّ من عاقل أو غيره ما ينبغي بطّه في وقته على الوجه الذي ينبغي فتلف به لم يضمن، وهكذا سراية كل مأذون فيه لم يتعد الفاعل في سببها.

- القسم الثاني:
متطبب جاهل باشرت يده من يطبه فتلف به، فهذا إن علم المجني عليه أنه جاهل لا علم له وأذن له في طبه لم يضمن.
ولا تخالف هذه الصورة ظاهر الحديث، فإن السياق وقوة الكلام يدل على أنه غرّ العليل وأوهمه أنه طبيب وليس كذلك.
وإن ظن المريض أنه طبيب وأذن له في طبه لأجل معرفته، ضمن الطبيب ما جنت يده.
وكذلك إن وصف له دواء يستعمله والعليل يظن أنه وصفه لمعرفته وحذقه فتلف به ضمنه، والحديث ظاهر فيه أو صريح.

- القسم الثالث:
طبيب حاذق أذن له وأعطى الصنعة حقها، لكنه أخطأت يده وتعدت إلى عضو صحيح فأتلفه، مثل أن سبقت يد الخاتن إلى الكمرة فهذا يضمن لأنها جناية خطأ، ثم إن كانت الثلث فما زاد فهو على عاقلته، فإن لم يكن عاقلة فهل تكون الدية في ماله؟ أو في بيت المال؟ على قولين هما روايتان عن أحمد.
وقيل إن كان الطبيب ذميا ففي ماله، وإن كان مسلما ففيه الروايتان؛ فإن لم يكن بيت المال أو تعذر تحميله فهل تسقط الدية؟ أو تجب في مال الجاني؟ فيه وجهان، أشهرهما سقوطها.

- القسم الرابع:
الطبيب الحاذق الماهر بصناعته اجتهد فوصف للمريض دواء، فأخطأ في اجتهاده فقتله.
فهذا يخرج على روايتين: إحداهما أن دية المريض في بيت المال، والثانية أنها على عاقلة الطبيب.
وقد نص عليهما الإمام أحمد في خطأ الإمام والحاكم.

- القسم الخامس:
طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها، فقطع سلعة من رجل أو صبي أو مجنون بغير إذنه أو إذن وليه، أو ختن صبيا بغير إذن وليه فتلف، فقال بعض أصحابنا يضمن لأنه تولد من فعل غير مأذون فيه.
وإن أذن له البالغ أو ولي الصبي أو المجنون لم يضمن بالنظر إلى ما سبق ومما ذكره ابن قيم الجوزية في هذا المجال فإنه يمكن القول أن هناك إجماعا على عدم مسؤولية الطبيب إذا أدى عمله لنتائج ضارة فيما إذا توافرت الشروط الآتية:
1- أن يكون طبيبا عن معرفة ودراية لا عن زعم وادعاء، ولا يفيد أن تكون له شهرة لا تستند إلى خبرة حقيقية.
2- أن يأتي الفعل بقصد العلاج وبحسن نية (أو بقصد تنفيذ الواجب الشرعي).
3- أن يعمل طبقا للأصول الفنية التي يقررها فن الطب وأهل العلم به، فما لم يكن كذلك فهو خطأ جسيم يستوجب المسؤولية.
4- أن يأذن له المريض أو من يقوم مقامه كذوي المريض أو الوالي وبالرغم من أن الحديث النبوي الشريف الذي ذكر آنفا يشير إلى صورة محددة من صور المسؤولية الطبية، وهو مزاولة المهنة دون تأهيل، فإن العبرة كما يقول أهل العلم بعموم النص لا بخصوص السبب، فيؤخذ من قول النبي عليه الصلاة والسلام أن كل ممارسة طبية تتحقق فيها الشروط التي ذكرناها للضمان، فإنها تقع تحت المسؤولية  ويحاسب عليها من ارتكبها.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال