الاضطرابات النفسية الجسمية (السيكوسوماتية).. الأمراض الجسمية التي تصيب أعضاء الجسد أو أي نظام في الجسم كله إلا تؤثر على الجهاز العصبي المركزي

الاضطرابات النفسية الجسمية (السيكوسوماتية) Psychosomatics:

ما من مرض جسمي يصيب عضوا من أعضاء الجسد، أو أي نظام في الجسم كله، إلا ويتداعى سائر الجهاز العصبي المركزي، فيستجيب لذلك المرض الذي حل بجزء معين من الكيان العضوي للإنسان، وذلك استجابة للعملية المرضية Pathological Process الطارئة أو المزمنة.

لذا "اعترى أوساط الأطباء هزة من الدهشة يوم فاجأها رجلان من كبار جراحي العالم، هما (Havery Cushing) مؤسس جراحة المخ، و(Chares Mayo) مؤسس المستشفى الجراحي المشهور باسمه في أمريكا، فأعلنا في حقل طبي كبير، أنهما يريان أن قرحة المعدة تنشأ من التوترات الانفعالية، أي من أسباب نفسية، ومع ذلك قدما الدليل التجريبي على صحة رأيهما..".

"لقد كان الرأي الطبي على أن قرحة المعدة تنشأ من اختلال فحواه أن غشاء المعدة يتآكل بفعل عصيرها الحامض، مثله في ذلك مثل الطعام. ولكن الأسباب المؤدية إلى هذا الاختلال الوظيفي بقيت غامضة حتى تلاحقت الأدلة في السنوات الأخيرة تثبت تأثير الانفعالات النفسية في وظائف المعدة، وما تحدثه من اضطراب خطير قد يؤدي في النهاية إلى آفة القرحة".

"ويجدر بنا أن نذكر للتو مشاهدات ولف (Wolf) وزميله لحالة فريدة لاشك أنها وثيقة ناطقة في هذا الصدد.

فقد أتيح لهما أن يشاهدا مريضا أجريت له عملية جراحية (من حوالي قرن مضى) هيأ له الجراح بها فتحة خارجية في المعدة أشبه بفم معدي، فكان يمضغ طعامه ويصبه في أنبوبة تدخل إلى المعدة عن طريق هذه الفتحة.

وقد استطاع ولف وزميله أن يراقبا خلال هذه الفتحة تأثير المنبهات المختلفة في غشاء المعدة المخاطي، وفي حركة جدرانها.

فتبين أن كثيرا من الانفعالات مثل القلق النفسي والغضب بنوع خاص يستثير حركة بالغة وإفرازا حامضيا عظيما.

وإذا دامت هذه التغيرات زمنا طويلا واشتد فعلها، ظهرت في غشاء المعدة بقع من النزيف ومظاهر تقرح، لا تلبث - إذا طال الأمد - أن تتحول إلى قرحات حقة.

حتى إذا هدأ الإفراز، وهبط الاحتقان، وقلت الحركة، فإن هذه القرحات لا تلبث أن تندمل.
وقد سبق للجراح الأمريكي الكبير (كوشنج Cushing) أن شاهد ظهور قرحات في المعدة لدى بعض المرضى، على عقب تهيج الجهاز الباراسبمتاوي عند إجراء عمليات في المخ المتوسط.

وتدلنا الملاحظة على انتشار قرحة المعدة لدى الجموحين من رجال الأعمال، ويدل سلوك المرضى بآفة القرحة على أنهم ينزعون في غير هوادة إلى مواجهة العقبات ومغالبتها، فنرى المريض وكأنه يوعز: (إنني رجل القدرة والنشاط والإنتاج، وإنني أهل للمنح، وتقديم العون للناس وتحمل التبعات، أحرص على أن يتوكل علي الناس، وأن أكون الزعيم المقتدر، لا يعوزني شيء ولا أسأل أحدا).

ولكن التحليل النفسي يكشف عما يخفيه هذا السلوك الظاهر من ميول دفينة هي نقيض هذا السلوك، ميول قوية إلى أن يكونوا موضع الحب والعطف، ورغبة ملحة في تلقي العون والاتكال على الغير.

كما يدل التحليل النفسي على أن هؤلاء المرضى ينكرون على أنفسهم هذه الميول الدفينة، فيكتمونها في أعماقهم، ويقوم في أنفسهم بشأنها صراع خفي عنيف.

يبدو -إذن- أن ما يميز سلوك هؤلاء المرضى هو التنكر لما يراودهم من حاجة إلى التماس الحب والركون إلى الغير، فعوضا عن أن يتلقوا من الغير، نراهم يبذلون العطاء، وعوضا عن الاعتماد على الآخرين نراهم يجهدون في سبيل الاستقلال والاكتفاء الذاتي.

أما الدافع إلى تنكر هؤلاء المرضى لميولهم فهو ما يشعرون بما تنطوي عليه من عودة إلى الطفولة، حين كان الطفل حضينا معتمدا على أبويه، لا يقوى إلا على تلقي الحب والعون منهما.

وليس من العسير أن نتبين العلاقة بين ما يدور من صراع في نفوس هؤلاء المرضى وبين اختلال وظائف المعدة لديهم، ذلك أن الميل إلى تلقي الحب والغذاء يرتبط ارتباطا وثيقا بعمليات التغذية منذ الطفولة الأولى، حين كان الطفل يتلقى الحب والغذاء معا من يد واحدة. فالأم حين تحضن طفلها ترضعه ثديها، إنما تهبه فوق ذلك حرارة صدرها وحنان قبلاتها.

يقترن -إذن- تناول الطعام بتلقي الحب منذ فجر الحياة بحيث يصبح استقبال الطعام رمزا وبشيرا بقدوم الحب، فإن الحرمان الذي يفرضه هؤلاء المرضى على أنفسهم لا يلبث أن يستثير وظائف التغذية، فتنشط المعدة إلى الحركة وإلى إفراز عصيرها كأنها تتأهب لاستقبال الطعام.

وكلما كان التنكر لهذه الميول عظيما كان إلحاحها شديدا، وكان بديلها الفسيولوجي، أعني نشاط المعدة إلى الإفراز كبيرا.

ولكن إفراز المعدة في هذه الظروف ليس طبيعيا، لأنه غير مقترن بتناول الطعام، بحيث إن تدفق العصير المعدي الحامضي مع خلوها من الطعام لابد أن (يؤدي) إلى اضطراب مزمن قد ينتهي إلى تآكل غشاء المعدة وتكوين القرحة.

ولا يفوتنا أن نشير إلى أن التحليل النفسي للحالات المرضية، قد أثبت أن أعراض الأمراض النفسية وانحرافات الشخصية لها معنى يمكن معرفته من تحليل المرضى والمنحرفين، كما أن لها وظيفة تؤديها للشخصية، ومن هنا كان تمسك الشخصية بها وتشبثها ببقاء المرض أو الانحراف، نظرا للكسب الذي يعود على الشخصية منها.

كما أثبت التحليل النفسي -أيضا- أن لهذه الأعراض المرضية منطقا تخضع له يكشفه التحليل، فكأن الأعراض المرضية عندئذ مقصودة وهادفة، لكن كل ما هنالك أنه قصد لاشعوري، وهدف مموه ممسوخ حتى يتفادى قوى الكبت والمقاومة ويفلت منها.

ومن هنا، تبدو أعراض الأمراض النفسية غير مفهومة، صعبة التفسير، ويلزم لحل ألغازها وعلاجها أن يخضع المريض لعملية تحليل نفسي، ذلك لأنه لا يعي عنها شيئا باعتبارها لاشعورية برمتها.

كما ينبغي أن نشير -أيضا- إلى أن قابلية كل مرض للعلاج والشفاء تختلف عن غيره، بل إن قابلية كل مريض بنفس المرض سوف تختلف -من حيث الشفاء- عن غيره، تماما كما هو الحادث بالنسبة للأمراض الجسمية.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال