وقاية الأمراض النفسية والعقلية.. الصعوبات الزوجية تحدث اضطرابا عاطفيا عند الأولاد لكن المساعدة والرعاية والمعالجة المبكرة قد تحول دون تعقد مشكلاتهم

من الأسئلة الهامة التي تطرح أحيانا عندما يجري الحديث عن الأمراض النفسية، هو إمكانية منع حدوث هذه الأمراض، والوقاية منها.
من الواضح أن هناك عدة عقبات في طريق الوقاية الفعالة من هذه الأمراض النفسية:

- أولها: أنه مازال أمامنا الكثير من العوامل التي مازلنا نجهلها، أو نجهل أثرها في إحداث هذه الأمراض، ولذلك فإننا لا نستطيع إعطاء الرأي الجازم فيما يتعلق بالوقاية منها.

- وثانيا: مازال غير واضح تماما كيفية تداخل العوامل المسببة مؤثرة ببعضها البعض.
ولاشك أن معرفة هذا الأمر يعتبر حلقة هامة من أجل وقاية فعالة.

- وثالثا: أن القليل فقط من هذه العوامل يمكن في الواقع التدخل لتغييرها وتغيير أثرها على كل الأحوال، بينما معظم هذه العوامل بعيدة عن إمكانية تدخلنا.

فمثلا يمكننا التدخل في تعديل بعض أحداث الحياة والعزلة الاجتماعية، وكذلك في بعض ممارسات تربية الأطفال وتنشئتهم، بينما يصعب علينا تغيير شخصية الإنسان، أو منع بعض الحوادث المعاشية.

وكذلك فإن الاستشارة الوراثية بالنسبة للمصاب بالمرض النفسي، فيما يتعلق بقضايا الزواج والإنجاب، مازالت محدودة التأثير جدا، إلا فيما يتعلق بداء رقص هنتغتون.

ومما هو معروف حتى الآن حول طبيعة الأمراض النفسية، والعوامل المحدثة لها، يمكننا الإشارة إلى العوامل التالية، والتي يمكن أن تخفف من احتمالات الإصابة بهذه الأمراض، ولكن دون أن يكون الأمر مضمون النتيجة:

- من الحكمة أن لا يعرض الإنسان نفسه لمجموعة من المتغيرات الكبيرة في حياته في وقت واحد.
وبعض الأحداث يمكن توقعها مسبقا مثل الزواج، وتغيير العمل أو المهنة، ومن المفيد أن يفصل الإنسان بين هذه الحوادث ببعض الوقت.

- بما أن للدعم الاجتماعي والأسري دور وقائي من الأمراض النفسية، أو على الأقل له أثر في تقصير مدة المرض وشدته، فإنه يقترح عندما ينتقل الإنسان أو يهاجر إلى مكان جديد، أن يحاول إقامة العلاقات الاجتماعية مع الناس من حوله، وخاصة الذين يشاركونه قيمه، ومفاهيمه ونظرته إلى الحياة بشكل عام.

- يتوفر للذين ينتمون إلى شبكة جيدة من العلاقات الاجتماعية من الأقارب والأصدقاء من يلجؤن إليه إذا صادفتهم مشكلات أو صعوبات، والحديث مع شخص آخر عن هذه المشكلات، وخاصة شخص يجيد الاستماع والفهم يخفف كثيرا، بل يكاد يذهب بالأثر العاطفي السلبي لهذه المشكلات، والقلق المتعلق بها.

"والمستمع الجيد" لا يشترط بالضرورة أن يكون قريب أو صديق، بل يمكن أن يكون اختصاصيا أو معالجا نفسيا.

- لاشك أن كل إنسان يجب أن ينشأ أولاده بطريقة تمنعهم ضد الأمراض النفسية، ولكن مع الأسف، مازالت هذه الطريقة التربوية غير واضحة لنا تماما، إلا أنه من المفروغ منه أن نذكر أن جوا أسريا من المحبة والدفيء، يعتبر أمرا ضروريا وجوهريا للصحة النفسية، ليس فقط عند الأبناء، وإنما الآباء والأمهات أيضا.

ففي هذا الجو الأسري، يتاح للإنسان التعبير عن مشاعره، وما يعتلج في صدره بحرية وأمان، ويشجع على الاعتماد على نفسه وبناء ثقته بذاته.

- هناك كثير من الأبحاث التي حاولت النظر إلى طرائق التكيف مع أزمات الحياة. ويبدو أنه يفضل أن يكون لدى الإنسان طرق متعددة للتعامل مع هذه الأزمات، بحسب طبيعة الأزمة، وظروفه الخاصة، بدل أن تكون لديه طريقة واحدة فقط غير مرنة، يتعامل خلالها مع كل الأزمات والمشكلات.

- ومن المفيد أيضا أن لا يتحلى الإنسان بنظرة سلبية متشائمة، بل عليه أن يشعر بأنه كائن له قيمته في الحياة، وأنه مسيطر على حياته، لا أنه ضحية لنتائج أعمال الآخرين، أو ضحية "القدرة" المكتوب.

نعم، قد يصعب أحيانا تغيير بعض أحداث الحياة، ولكن بوسعنا أن نغير نظرتنا ومواقفنا من هذه الأحداث، وكذلك نظرتنا من أنفسنا وإمكاناتنا.

- هناك بعض المشكلات العاطفية والنفسية والتي تشفى تلقائيا بنفسها من خلال الوقت، ومن دون معالجة فاعلة، ودون أن تترك أي أثر على حياة الإنسان النفسية، وإن كان هذا الأمر قد يستغرق عدة أشهر، ولكن هناك مشكلات قد تمتد وتزمن وتشتد، إن لم يتلق المصاب الرعاية الكافية المناسبة.

فمثلا، إن أحدثت الصعوبات الزوجية اضطرابا عاطفيا عند الأولاد، فإن المساعدة والرعاية والمعالجة المبكرة قد تحول دون تعقد مشكلات الأولاد، وبالتالي فلا تصل الأمور لحد الأمراض النفسية الشديدة.

ولذلك فتلقي الرعاية المبكرة، وخاصة وقت الأزمات والكوارث، أمر جد مفيد لإحداث تكيف مناسب صحي مع هذه الأحداث.

- والنقطة الأخيرة والأكثر أهمية في قضية تخفيف المعاناة والألم من الأمراض النفسية، أنه مهما كانت طبيعة هذا "المرض"، سواء كان اضطرابا عاطفيا عقب وفاة صديق، أو كان بداية لمرض الفصام، فإنه من المهم جدا أن يحاول الإنسان طلب المساعدة والرعاية، في أقرب وقت، طالما أنه مدرك وشاعر بالذي يحدث، فعلاج المرض النفسي في المراحل الأولى أسهل بكثير من معالجته في المراحل المتقدمة.

إن هذه المعالجة المبكرة، تخفف الكثير من آثار هذا المرض، وما يحدثه من صدمة على حياة المصاب، وعلى أسرته ومعارفه. 
أحدث أقدم

نموذج الاتصال