الختان وأسطورة العهد بين الله واليهود.. أمر الله موسى بختان كل ذكر في اليوم الثامن كشرط لإقامة الفصح

إذا رجعنا إلى نصوص الكتب المقدّسة اليهوديّة نجد تسلسلاً يمكن إجماله كما يلي:
التكوين فصل 17: أمر الله بختان إبراهيم وإسماعيل وذرّيته
التكوين فصل 21: ختان إسحاق
الخروج فصل 4: ختان ابن موسى من قِبَل أمّه صفّورة
الخروج فصل 12: أمر الله موسى بالختان كشرط لإقامة الفصح
الأحبار فصل 12: أمر الله موسى بختان كل ذكر في اليوم الثامن

يشوع فصل 5: ختان يشوع لليهود في البرّية

وهكذا توحي لنا الكتب المقدّسة اليهوديّة أن الختان بدأ بأمر أعطاه الله لإبراهيم الأب الأسطوري للعرب واليهود.
ولكن هناك شاهد في التوراة ذاتها يبيّن أن الختان كان يمارس منذ عهود قديمة قد تعود إلى العصر الحجري.
ويثبت هذا استعمال الصوّان كآلة للختان (الخروج 25:4؛ يشوع 2:5-3) . والمؤرّخون، يهوداً كانوا أو غير يهود، يشكّون في تاريخ تصنيف هذه النصوص ودمجها في التوراة.
فهناك من يعتبر قصّة ختان ابن موسى من قِبَل أمّه صفّورة هو أقدم نص كُتب عن الختان وقد تمّت صياغته وإضافته إلى التوراة في القرن العاشر قَبل المسيح.
ثم يأتي نص ختان يشوع لليهود في البرّية الذي تمّت صياغته وإضافته إلى التوراة في القرن السابع قَبل المسيح.
أمّا النص المتعلّق بأمر الختان الذي تلقّاه إبراهيم فهو نص يرجع إلى ما بعد القرن السادس قَبل المسيح.
وقد تكون الآية التي تنص على أمر الله لموسى بختان كل ذكر (أحبار 12) قد أضيفت إلى التوراة أيضاً في نفس الوقت.

وحتّى إن قَبلنا بأن الفصل السابع عشر من سفر التكوين الخاص بأمر الله بختان إبراهيم هو أقدم نص في التوراة حول الختان إلاّ أن هذا النص يطرح عدّة أسئلة.

فالمؤرّخون لم يتّفقوا على تاريخ ميلاد إبراهيم. وبعضهم يرى أن إبراهيم قد عاش في القرن التاسع عشر قَبل المسيح، أي أن إبراهيم عاش عشرة قرون قَبل صياغة سفر التكوين في صورته الحاليّة، إذا افترضنا أن النص صيغ في القرن التاسع قَبل المسيح.
وهناك من يشكّك في وجود إبراهيم أصلاً. ومن بين المشكّكين المسلمين نذكر هنا طه حسين (توفّى عام 1973) إذ يقول:
«للتوراة أن تحدّثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدّثنا عنهما أيضاً، لكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي [...] ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصّة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهوديّة، والقرآن والتوراة من جهة أخرى».

ومن المشكّكين المسيحيّين العرب نذكر كمال الصليبي الذي يرى في قصّة إبراهيم التي تحكيها التوراة شخصيّتين مختلفتين: إبراهيم العبراني وإبراهيم الآرامي.

كما أن المؤرّخين يرون أن سفر التكوين في صورته الحاليّة، بما فيه النصوص الخاصّة بالختان في الفصل السابع عشر، هو تجميع لروايات وحكايات وأساطير تنتمي إلى عصور متباعدة لمجتمع مر بأطوار مختلفة من البداوة إلى الزراعة إلى حُكم ملك. فالآية 6 تقول: «وسأنميك جدّاً جدّاً وأجعلك أمماً، وملوك منك يخرجون» وهذه الآية والآية 16 من نفس الفصل تبيّنان أن كاتب هذه الرواية هو كاهن مجهول الهويّة كان يعيش في عصر حَكمه ملك حوالي القرن التاسع قَبل المسيح. وقد حاول فيها تنسيق هذه الأساطير في قصّة توحي وكأنها متجانسة تحكي ختان رئيس قبيلة اسمه إبراهيم الذي ولد إسماعيل وإسحاق، وهذا الأخير ولد عيسو ويعقوب. وبينما نبذ الله عيسو، اختار يعقوب الذي سمّاه الله إسرائيل فأصبح أباً لأسباط اليهود الاثني عشر المعروفين.

وإذا عدنا إلى محتوى الفصل السابع عشر من سفر التكوين، نجد أنه يحكي لنا قصّة فحواها أن الله ظهر لإبراهيم عندما كان عمره 99 سنة وعمر ابنه إسماعيل 13 سنة، فسقط على وجهه، أي أغمي عليه. وكان ذلك قَبل ميلاد ابنه إسحاق بسنة.
وقد يظن البعض أن عمر 99 سنة لم يكن ذو أهمّية إذ إن التوراة تحكي أن إبراهيم مات وعمره 175 سنة (التكوين 5:25).
إلاّ أن التوراة تقول إن إبراهيم كان عندما بشّره الله بميلاد إسحاق «شيخاً طاعناً» (التكوين 11:18).
ويرى رجال الدين اليهود علامة في ختان إبراهيم في هذا السن المتأخّرة. فهو يعني لهم أن إبراهيم هو مثال لكل شخص يتحوّل لليهوديّة.
فكما أن إبراهيم تحمّل ألم الختان في هذا السن، فعلى من يتهوّد أن يختن أسوة بإبراهيم دون أن يتحجّج بسنّه المتأخّرة.

وهذا يعني أيضاً بأنه يجب عدم صد الباب أمام كل من يريد أن يتحوّل لليهوديّة مهما كانت سنّه . والمؤلّف اليهودي «فيلون» حاول تفسير عمر إبراهيم المتأخّر بصورة رمزية. فيقول إن العدد 99 يقترب من العدد 100، الذي يُقسم على 10. وهذا العدد الأخير هو العُشر الذي يحق لخدَمة المعبد أخذه. والعدد 99 يتكوّن من العدد 50 ومن العدد 49. والعدد 49 يتكوّن من سبعة سبعات وهي إشارة إلى السنة السابعة التي يستريح فيها الجسم والنفس. وهذا إشارة إلى نص التوراة: «وفي السنة السابعة، يكون للأرض سبت راحة، سبت للرب، فلا تزرع حقلك ولا تقضب كرمك. [...] لأنها سنة راحة للأرض» (الأحبار 4:25-5). إلى غير ذلك من الكلام الذي يقرب من الهوس.

يقول الفصل 17 من سفر التكوين إن الله قطع عهداً على نفسه لإبراهيم وذرّيته بأن يكثر ذرّيته ويعطيه أرض الميعاد، أي «أرض كنعان»، ويطالب إبراهيم مقابل ذلك أن يختتن وأن يجرى هذه العمليّة على جميع أفراد عائلته وعلى عبيده الذكور.

وهذا الفصل أساس لثلاثة مبادئ يهوديّة مترابطة ما زالت حتّى يومنا هذا تطرح مشاكل سياسيّة وأخلاقيّة جمّة:
- مبدأ «شعب الله المختار»، وهي فكرة عنصريّة.
- مبدأ «أرض الميعاد» التي يرتكز عليها اليهود في مطالبتهم بأرض فلسطين وحرمان أهلها منها. وهناك من يرى أن ختان يشوع اليهود بعد خروجهم من مصر وقَبل دخولهم فلسطين (يشوع فصل 5) ناتج عن ارتباط إعطاء الأرض بالختان.
- مبدأ وجوب ختان الذكور طاعة لأمر الله. وهذا يطرح مشكلة التعدّي على سلامة جسم طفل غير بالغ.

وقد ذكرنا في القسم الأوّل أن اليهود يستعملون كلمتي «بريت ميلا» للتعبير عن الختان. وهذه تعني حرفيّاً «عهد القطع». وهي إشارة واضحة إلى العهد بين الله وإبراهيم كما يرويه نص الفصل السابع عشر في سفر التكوين. والعرب يستعملون عبارة «قطع عهداً» لتعني أخذ عهداً على نفسه. ونحن نجد عهداً مماثلاً بين الله وإبراهيم في الفصل 15 من سفر التكوين الذي يروي أن إبراهيم تذمّر بأن لا نسل له. فأراه الله السماء وقال له: «أنظر إلى السماء وأحص الكواكب إن استطعت أن تحصيها» وقال له: «هكذا يكون نسلك [...] أنا الرب الذي أخرجك من أور الكلدانيين لأعطيك هذه الأرض ميراثاً لك». فقال إبراهيم للرب: «أيها السيّد الرب، بماذا اعلم أني ارثها؟». فأشار إليه الرب بأن يأخذ عجلة وعنزة وكبشاً ويمامة وجوزلاً وأن يشطرها ويجعل كل شطر قبالة الآخر إلاّ الطائران فلم يشطرهما. فلمّا غابت الشمس وخيّم الظلام، إذا بتنور دخان ومشعل نار يسيران بين تلك القطع. وتضيف التوراة بأنه في ذلك اليوم «قطع الرب مع أبرام عهداً قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات». فهناك علاقة بين شطر الحيوانات من قِبَل إبراهيم وقطع العهد من قِبَل الله. وفي الفصل 17 أعاد الله العهد مع إبراهيم ولكن بدلاً من شطر الحيوانات طلب الله من إبراهيم شطر غلفته. فالختان هو علامة (اوت بالعبريّة: آية بالعربيّة) لإظهار العهد: عهد الله مع إبراهيم بتكثير نسله وإعطائه أرض الميعاد.

وقد جاء في الفصل 17 من سفر التكوين أمر الختان (القطع) الذي يجب أن يجرى للذكور. ولكن هذا النص لم يُعرف العضو الذي يجب أن يتم عليه هذا القطع ولا كيفيته ولا آلة القطع. إلاّ أن العلماء اليهود اعتبروا أن القطع يتم على غرلة العضو التناسلي. وقد اعتمدوا في ذلك على نص الفصل 17 الذي يقول: «وابن ثمانية أيّام يختن كل ذكر منكم» . وسوف نرى في القسم القادم كيف أن بعض رجال الدين المسيحيّين قد فسّروا الختان بالمعنى الرمزي، أي الامتناع عن ارتكاب الفواحش بالعضو التناسلي، وليس قطعه.

وهناك روايات مختلفة عند اليهود حول ختان إبراهيم. إحدى هذه الروايات تقول إن الله لم يذكر الختان لإبراهيم بل أشار إلى ذكر إبراهيم ففهم إبراهيم بالإشارة فختن نفسه . ورواية أخرى تقول إن إبراهيم كان في بداية أمره معارضاً لأمر الله خوفاً من أن يكون الختان حاجزاً بينه وبين باقي الناس. فكان رد الله: يكفيك إني إلهك. فتشاور إبراهيم مع ثلاثة من أصدقائه. فعارضه الأوّل قائلاً بأنه قد قارب المائة فكيف يفكّر في إيقاع هذا الألم بنفسه. وعارضه الثاني لأن الختان سيكون علامة يسهّل على أعدائه تمييزه بها. وأمّا الثالث فوافقه قائلاً: كيف يمكنك أن تتردّد بينما الله نجاك من النار، وساعدك ضد أعدائك، وحرص عليك في زمن الجوع. عند ذلك قرّر إبراهيم ختان نفسه، وذلك في وضح النهار لكي يتحدّى الكل فلا يقول أحد إنه لو رآه لكان منعه من فعله. وتقول الرواية أن ختان إبراهيم كان في اليوم العاشر من تشرين، يوم الغفران، في نفس المكان الذي بني فيه المذبح داخل الهيكل، حتّى يكون ختان إبراهيم تكفيراً دائماً عن إسرائيل.
وهناك رواية يهوديّة تقول إن إبراهيم قد ختن نفسه بسيفه. وهناك رواية ثانية تقول إن عقرباً قد قرصه فقطع غلفته. وقد تكرم أحد معارفي اليهود بإرسال ترجمة هذه الرواية الأخيرة كما جاءت ضمن مؤلّف مدراشي يُدعى «تنهوما»:

«سر أمامي وكن كاملاً» (التكوين 1:17). كما جاء في الكتاب: «الله طريقه كامل» (مزامير 31:18). ماذا تعني كلمة «كامل» في هذا النص؟ إنها تعني الختان. قال رابي اشماعيل: عظيمة هي وصيّة الختان، لأن ثلاثة عشر عهداً بني عليها كما هو واضح من تفسير الآيات. لقد كان إبراهيم جالساً ومتحيّراً كيف يختتن، لأن القدّوس، ليكن مباركاً، قال له: «سأجعل عهدي بيني وبينك» (التكوين 1:17). وماذا هو مكتوب بعد ذلك؟ «فسقط أبرام على وجهه» (التكوين 3:17). ولأنه سقط على وجهه، أشار القدّوس، ليكن مباركاً، على ذاك الموضع فلسعه عقرب وهكذا تم ختانه. ولكن كيف نعرف هذا الأمر؟ لأنه مكتوب: «وخاطبه الله قائلاً: ها أنا أجعل عهدي معك» (التكوين 3:17-4). ممّا يعني «ها أنت مختوناً». وقد جاء في الكتاب: «في ذلك اليوم عينه خُتن إبراهيم» (التكوين 26:17). فلم يقل النص «إن إبراهيم ختن نفسه»، بل «خُتن». كيف يمكن أن نشبّه ذلك؟ نشبّهه بأحد أصدقاء الملك الذي كان يرغب الزواج من ابنة الملك ولكن كان مرتبكاً لا يعرف كيف يفاتحه، مباشرة أو بواسطة غيره. وفهم الملك ما كان في قلب الرجل فقال له: «أنا أعرف ما تريد، ها هي ابنتي في بيتك». وهذا ما حدث مع إبراهيم. فعندما قال له القدّوس، ليكن اسمه مباركاً: «سأجعل عهدي بيني وبينك»، كان إبراهيم مرتبكاً فسقط على وجهه، وبسقوطه وجد نفسه مختوناً. وهكذا قال له القدّوس: «ها أنا أجعل عهدي معك». وهذا معنى الكلمات «قول الرب نقي» (المزمور 31:18). فقد نقَّى الله نسل إبراهيم بالختان».
أحدث أقدم

نموذج الاتصال