الختان علامة انتماء وتمييز وخلاص عند اليهود.. علامة انتماء للشعب اليهودي يتعرّف بها الله على شعبه

يعتبر الختان عند اليهود علامة انتماء. فكل من يريد الانضمام إليهم كان عليه أوّلاً أن يختتن. فيروي لنا الفصل 34 من سفر التكوين قصّة اغتصاب دينة ابنة يعقوب من رجل غير يهودي. وقد طلب المغتصب الزواج منها. فوضع أبناء يعقوب شرط الختان، عليه وعلى كل ذكر من مدينته. وقد تم الزواج فعلاً من دينة بعد الختان. ولكن ذلك لم يكن إلاّ حيلة. فبعد الختان، لم يكن باستطاعة رجال المدينة المدافعة عن أنفسهم بسبب الألم. فدخل إخوة دينة عليهم وأخذوا أختهم وقتلوا كل ذكر بحد السيف وسبوا كل ثروتهم وجميع أطفالهم ونسائهم، وسلبوا كل ما في البيت.
ويروي الفصل 14 من سفر القضاة أن شمشون وقع في حب فلسطينيّة. ولكن أبوه وأمّه كانا معارضين لذاك الزواج: «أليس في بنات إخوتك وفي شعبي كلّه امرأة، حتّى تذهب وتأخذ امرأة من الفلسطينيين الغلف؟». وهذا يبيّن أن الفلسطينيين لم يكونوا يختنون أولادهم.
وفي الفصل 18 من سفر صموئيل الأوّل إشارة إلى زواج داود من ميكال ابنة الملك شاول مقابل مهر من نوع غريب. فقد طلب الملك من داود أن يقدّم له «مائة غلفة من الفلسطينيين انتقاما من أعداء الملك». وكان قصد شاول أن يُقتل داود في غزوته ضد الفلسطينيين. إلاّ أن داود نجى «وقتل من الفلسطينيين مأتي رجل وجاء بغلفهم، فسلمت بتمامها إلى الملك ليصاهره». فزوجه شاول ميكال ابنته. وهكذا «رأى شاول وعلم أن الرب مع داود». والظن هنا أن داود لم يحضر فقط الغلفة بل العضو التناسلي بأكمله للملك. والغلفة هنا إثبات بأن القتلى من الفلسطينيين لأنهم غير مختونين.
وفي الفصل 9 من سفر أرميا نقرأ: «ها إنها تأتى أيّام، يقول الرب، أعاقب فيها كل المختونين في أجسادهم. مصر ويهوذا وأدوم وبني عمون وموآب، وكل مقصوصي السوالف الساكنين في البرّية، لأن كل الأمم غلف، وكل بيت إسرائيل غلف القلوب». وكلمة «مقصوصي السوالف» تعني العرب الذين كان لهم عادات خاصّة في قص الشعر حرّمتها الشريعة: «ولا تحلقوا رؤوسكم حلقا مستديرا، ولا تقص أطراف لحيتك» (الأحبار 27:19). وكلمة «الأمم» (بالعبريّة: غوييم)، تعني الشعوب غير اليهوديّة، وهي كلمة احتقار.
وفي الفصل 4 من سفر يهوديت نقرأ: «ورأى أحيور كل ما فعل إله إسرائيل فآمن بالله إيماناً راسخاً وختن لحم غلفته فضُم إلى بيت إسرائيل إلى اليوم». كما في الفصل 56 من سفر أشعيا إشارة إلى أن الغرباء الذين يحترمون السبت والختان يصبحون ضمن الشعب.
توضّح هذه النصوص أن الختان كان علامة انتماء للشعب اليهودي، وأن الختان كان شرطاً للزواج وأن الشعوب التي كانت تحيط باليهود لم يكونوا مختونين.
ويربط اليهود بين الختان وبين مصيرهم الجماعي. فتقول رواية إن اليهود قد نجوا من مصر لأنهم لم يُغيّروا أسمائهم ولم يتركوا لغتهم ولم يبوحوا بسرهم ولم يتركوا الختان. والسر الذي تتكلّم عنه هذه الرواية هو أن موسى قال لهم بأنهم سيغنمون ممتلكات كثيرة من المصريّين . ورواية أخرى تقول إن الله غيَّر حب المصريّين لليهود إلى بغض لأن اليهود تركوا الختان بعد موت يوسف. وقد علّق كاتب أمريكي بأن هذه الروايات نابعة من اعتقاد اليهود أن عدم الختان يذكي حنق إلههم المنتقم فينكل بهم جميعاً، إذ إنه - في رأيهم - يعد القبيلة متضامنة على الخير والشر ويقتص من الناس أمماً لا أفراداً. وهذا ما جعل اليهود يختنون خدمهم أيضاً من غير اليهود حتّى لا يتغلغل الشر في وسط القبيلة.
الختان إذاً علامة يتعرّف بها الله على «شعبه». ونحن نجد علامة مشابهة لذلك في سفر الخروج إذ توعّد الله أن يقتل كل بكر في أرض مصر. وحتّى ينجوا اليهود من هذه الضربة كان عليهم أن يلطّخوا قائمتي الباب وعارضته بدم ذبيحة الفصح. فعند مرور الله يرى الدم فيعرف أن في داخل ذاك البيت يهوداً فيعبر من فوقهم ولا تحل بهم ضربة مهلكة (الخروج 7:12-13 و22-23). فهذا يعني أن الله لا يستطيع تمييز الأفراد إلاّ بعلامة خارجيّة فينزل الله بمنزلة الراعي البسيط الذي يحتاج لعلامة لتمييز غنمه من غنم غيره.
ويرى موسى ابن ميمون (توفّى عام 1204) في الختان علامة تماسك وتعاون بين اليهود. فبعد أن ذكر أن الهدف الأوّل من الختان هو إضعاف الشهوة الجنسيّة، أضاف يقول:
«وفي الختان أيضاً عندي معنى آخر وكيد جدّاً وهو أن يكون أهل هذا الرأي كلّهم، أعني معتقدي توحيد الله، لهم علامة واحدة جسمانيّة تجمعهم، فلا يقدر من ليس هو منهم يدّعي أنه منهم، وهو أجنبي، لأنه قد يفعل ذلك كي ينال فائدة، أو يغتال أهل هذا الدين. وهذا الفعل لا يفعله الإنسان بنفسه، أو بولده إلاّ عن اعتقاد صحيح. لأن ما ذلك شرطة ساق أو كيّة في ذراع، بل أمر كان مستصعباً جدّاً جدّاً. معلوم أيضاً قدر التحابب والتعاون الحاصل بين أقوام كلّهم بعلامة واحدة وهي بصورة العهد والميثاق. وكذلك هذه الختانة هي العهد الذي عهد إبراهيم أبونا على اعتقاد توحيد الله. وكذلك كل من يُختن إنّما يدخل في عهد إبراهيم والتزام عهده لاعتقاد التوحيد: لأكون لك إلهاً ولنسلك من بعدك» (سفر التكوين 7:17)».
ونحن نجد ممارسة الختان كعلامة انتماء للشعب اليهودي عند كثير من اليهود الذين لا يمارسون شعائر ديانتهم، وحتّى بين الملحدين منهم. وما زال المؤلّفون اليهود في يومنا يعتبرون الختان «علامة لا تمحى» لليهودي وأنه واحد من أقوى المساعدين للبقاء اليهودي. وموسوعة المعارف اليهوديّة تعتمد هنا على قول الفيلسوف اليهودي «سبينوزا» (توفّى عام 1677) الذي ننقله هنا:
«ليس لليهود ما يعزونه لأنفسهم ممّا هو خليق بأن يضعهم فوق سائر الأمم. أمّا عن حياتهم الطويلة كأمّة ضاعت دولتها، فليس فيها ما يدعو إلى الدهشة إذ إن اليهود قد عاشوا بمعزل عن جميع الأمم حتّى جلبوا على أنفسهم كراهيّة الجميع. ولم يكن ذلك عن طريق مراعاة الطقوس الخارجيّة التي تعارض طقوس الأمم الأخرى فحسب، بل أيضاً عن طريق علامة الختان التي ظلوا متمسّكين بها دينيّاً. وقد أثبتت التجربة أن كراهيّة الأمم عامل قوي إلى أبعد حد في الإبقاء على اليهود [...]. وأنا أعزو إلى طقس الختان بدوره من القيمة والأهمّية في هذا الصدد ما يجعلني اعتقد أنه وحده يستطيع أن يضمن لهذه الأمّة اليهوديّة وجوداً أزليا. فإذا لم تضعف مبادئ دينهم ذاتها قلوبهم، فإني اعتقد بلا أدنى تحفّظ، عالماً بتقلبات الأمور الإنسانيّة، بأن اليهود سيعيدون بناء إمبراطوريتهم في وقت ما، وإن الله سيختارهم من جديد. وإننا نجد مثلاً رائعا عند الصينيين للأهمّية التي يمكن أن تكون لهم صفة مميّزة كالختان إذ يحتفظ الصينيون بدورهم بخصلة من الشعر على شكل ذيل فوق الرأس ليتميّزوا بها عن سائر الناس، وبذلك ابقوا على أنفسهم عبر آلاف من السنين، تجاوزوا في القِدم سائر الأمم بكثير. صحيح أنهم لم يبقوا على إمبراطوريتهم دون فترات انقطاع، ولكنّهم كانوا دائماً يعيدون بناءها عندما تنهار، وسيقيمونها من جديد حتماً عندما يضعف التتار بسبب الحياة الناعمة المترفة. وأخيراً، فلو شاء أحد أن يتمسّك بأن اليهود قد تم اختيارهم من الله إلى الأبد لهذا السبب أو ذاك، فإني لن أعارض في ذلك، بشرط أن يكون مفهوماً أن اختيارهم الزمني أو الأبدي، بقدر ما هو وقف عليهم، يتعلّق فقط بالدولة وبالمزايا المادّية (إذ لا يوجد أي فرق غير ذلك بين أمّة وأخرى). أمّا بالنسبة إلى الذهن وإلى الفضيلة الحقّة فلم تخلق أمّة متميّزة عن الأخرى في هذا الصدد، وعلى ذلك لم يختر الله أمّة بعينها، مفضّلاً إيّاها في هذه الناحية على الأمم الأخرى».
وقد علّق الدكتور حسن حنفي على الجملة الخاصّة باستعادة بناء إمبراطوريّة اليهود واختيار الله لهم من جديد، قائلاً: «هذه سخرية من «سبينوزا» لأنه لا يعتقد أن اليهود شعب الله المختار أو بأن الحُكم الإلهي الذي كان مميّزاً لهم هو انسب أنظمة الحُكم للطبيعة البشريّة» . وعلى خلاف ما جاء في موسوعة المعارف اليهوديّة، نرى أن مقارنة «سبينوزا» ختان اليهود بخصلة الشعر على شكل ذيل فوق الرأس عند الصينيين تعبير تهكّمي. فليست تلك الخصلة هي التي أبقت على الشعب الصيني عبر آلاف من السنين.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال