الجدل ضد الختان عند المجدّدين اليهود الألمان.. عملية وحشية وممارسة دموية تقلق الأب وتضع الأم في كآبة

بعد الثورة الفرنسيّة عام 1789، كان في أوروبا توجه عام يهدف إلى خلق مجتمع مدني تُلغى فيه الحواجز الطائفيّة وتجعل من الأفراد مواطنين متساوين في الحقوق. فقد أبدت الحكومات استعدادا لدمج الطوائف الدينيّة كاليهود. وكان مطلوباً من تلك الطوائف الدينيّة الخروج من تقوقعها لكي يستفيد أفرادها من الحقوق التي تهبها الحكومات. وكان نابليون شخصياً معادياً لهذا التقوقع الطائفي إذ فرض على اليهود كسر الغيتو اليهودي للانفتاح على الخارج في المناطق التي وقعت تحت سيطرته.
وضمن هذا الاتجاه كان ميلاد التيّار المجدّد اليهودي الذي كان يدعو إلى القبول المتبادل بين اليهود وغير اليهود. ففي خطاب افتتاح أوّل «هيكل يهودي مجدّد» في عام 1810 في مدينة «سيسين» الألمانيّة التي كانت تحت سيطرة الجيش النابليوني، اعتبر «إسرائيل جاكوبسون» أن الطقوس والعادات الدينيّة اليهوديّة معادية للعقل وهي إهانة للإنسان العاقل. وطالب طائفته بالتجديد الديني وبث مبادئ أكثر سلامة. وطالب في نفس الوقت من المسيحيّين أن يتقبّلوا اليهود في مجتمعهم وفي أعمالهم المهنيّة .
وكان من بين إشارات الانفتاح مثلاً في مجال الطقوس أن أدخل الأرغن ضمن الطقس الديني بينما كان رجال الدين اليهود يرفضون إدخال أيّة آلة موسيقيّة في طقوسهم حتّى يعودون إلى أرض الميعاد ويعاد بناء هيكل سليمان من جديد. وإدخال الأرغن يعني أن على اليهودي أن يعتبر البلد الذي يقوم فيه كبلده ولا ينتظر عودته إلى أرض الميعاد. وهذه النظرة اليهوديّة الجديدة لمكان الإقامة نجده في تسمية المعبد. فهو عند المجدّدين ليس الكنيس بل الهيكل، وهو الاسم الذي كان يطلق حصراً على هيكل سليمان. ممّا يعني أن كل مكان يسكن فيه اليهودي هو بمثابة القدس له. وهكذا حاول اليهود الاندماج في المحيط الاجتماعي الجديد الذي خلَّفَته مبادئ الثورة الفرنسيّة ومبادئ فلاسفة التنوير.
ويرى اليهود المجدّدون أن طائفتهم مكوّنة من قشرة ونواة. فالقشرة تحمي النواة ضد العاهات الخارجيّة. وإذا كان الجو مناسباً، فإن على القشرة أن تنشق لتسمح للنواة بالنمو مستغنية عن القشرة. وتلك القشرة كانت في نظرهم النظام الطائفي اليهودي المتقوقع المتوارث عن العصور الوسطى. ومنهم من أضاف إليه التلمود. فهم يعتبرون أن لليهوديّة ثلاث مراحل: العصر التوراتي، تبعه عصر التلمود الذي تبع خراب الهيكل والذي حمى اليهود ضد الخارج. ثم جاء حاليّاً العصر الحديث الذي لا يحتاج للتلمود لأنه يعيق نمو اليهوديّة وتطوّرها.
وقد قاد هذا الفكر التجديدي عند اليهود إلى التصدّي لتقاليد طائفتهم الدينيّة معتبرين أن كل تقليد لا يتّفق مع العقل والتقدّم العلمي يجب إبعاده. ومن بين تلك التقاليد الختان. وكانت هذه العادة ممارسة بصورة عامّة بين اليهود لسببين: الأوّل هو اعتقادهم أن الختان أمر إلهي موحى ومُلزِم، والثاني خضوعهم لنظام الطوائف الذي يسيطر عليه رجال الدين. وكان هؤلاء يفرضون الختان فرضاً، وكل من تساوره نفسه بعدم ختان ابنه كان يستبعد من الطائفة. ومع تزعزع سلطة رجال الدين اليهود، أتيحت الفرصة لبعض اليهود طرح تساؤلات حول معنى الوحي ولزوم تطبيقه، بما في ذلك الأمر الإلهي بالختان. وقد فُتح النقاش حول الختان فعلاً عام 1842 في مدينة فرانكفورت الألمانيّة من قِبَل مجموعة يهوديّة علمانيّة أطلقت على نفسها «أصدقاء التجديد»، وهو تعبير يوازي تعبير «أصدقاء النور» الذي كان يأخذ به مناصرو التيّار الحر البروتستانتي ذو الصبغة العالميّة. وكان من بين مطالب «أصدقاء التجديد» حذف الختان كعلامة تمييز بين الناس. فوضعوا في برنامجهم اعتبار الختان أمر غير مُلزِم لليهودي. إلاّ أنهم حذفوا هذه النقطة لاحقاً تحت ضغط رجال الدين اليهود. وقد اقترح هؤلاء المجدّدون في منشور دون ذكر اسم المؤلّف بأن يُستَبدَل الختان الدموي بطقس ديني للذكر والأنثى أطلق عليه تقديس اليوم الثامن، الهدف منه إدخال كل من الذكر والأنثى في العهد وإعطاؤه اسما يهوديّاً. وكان بعض المجدّدين لا يخفون بأن قصدهم كان إلغاء الاعتقاد بديانة ذات وحي وإلغاء الفروق بين الأديان.
وبعد هذا بقليل، وعلى أثر حوادث موت أطفال يهود نتيجة للختان، قامت إدارة الصحّة في مدينة فرانكفورت بنشر تعليمات بأنه على «اليهود المحلّيين الذين يريدون ختان أطفالهم» اللجوء إلى أشخاص مؤهّلين طبّياً وإدارياً. وقد كان القصد من هذه التعليمات ظاهرياً تفادي المشاكل الصحّية للختان، ولكن في حقيقتها أخِذَت تحت تأثير التيّار المجدّد المعادي للختان بقصد إضعاف سلطة رجال الدين. وقد فُسِّرَت فعلاً من قِبَل هذا التيّار بأن الختان أمر متروك لإرادة أهل الأطفال وليس لإرادة السلطة الدينيّة اليهوديّة، ممّا أدّى إلى ترك بعض اليهود أولادهم دون ختان. وقد حاول الحاخام «سلمون أبراهام ترير» الحصول من حكومة مدينة فرانكفورت على تعديل للتعليمات المذكورة بحيث لا تُفسَّر بالمعني الذي يريده المجدّدون. إلاّ أن الحكومة أجابت بأن القصد من تلك التعليمات لم يكن إلغاء أمر إلهي، رافضة التدخّل في موضوع يخص الحرّية الفرديّة. وبعد أن رفض بعض اليهود ختان أبنائهم، رجع الحاخام للحكومة طالباً الحق في فصلهم من الطائفة اليهوديّة، مبيّناً أن اليهودي الذي يرفض ختان ابنه يعاقب حسب القوانين اليهوديّة بالموت. ولكن الحكومة أجابت بأنها تأسف أن يقوم بعض الأفراد اليهود في الإساءة للطائفة اليهوديّة، ولكنّها في الوقت نفسه تأسف لعدم إمكانيّة أخذ الإجراء الذي يطلبه الحاخام. عندها، أرسل الحاخام المذكور رسالة إلى 80 حاخاماً يهوديّاً أوروبياً طالباً أخذ موقف ضد حركة المجدّدين. وقد جاءت أكثر الأجوبة مؤيدة لموقف هذا الحاخام، معتبرة اليهود الذين يرفضون الختان مرتدّين يجب إقصائهم عن الطائفة اليهوديّة وقطع كل علاقة معهم ورفض زواجهم أو دفنهم في المقابر اليهوديّة. وهكذا بقي الختان شرطاً أساسياً للانتماء للطائفة اليهوديّة. ولكن ذلك أدّى إلى انشقاق الطائفة اليهوديّة .
وفي هذا الجو المشحون داخل الطائفة اليهوديّة تم بلورة أفكار رافضة للختان. فحتّى بعض رجال الدين اعتبروا أن الختان «عمليّة وحشيّة وممارسة دمويّة تقلق الأب وتضع الأم في كآبة»، كما أقر بذلك الحاخام «أبراهام جايجر» في رسالة شخصيّة، متمنّياً أن يُستبدل الختان الدموي بالطقس الديني الذي اقترحه المجدّدون. وفي اجتماع رجال الدين اليهود المجدّدين الألمان عام 1844، كان موضوع إلغاء الختان هو حديث الساعة وأثار كثيراً من العصبيّة. وبينما كان الحاخام «منديل هيس» يحاول أن يقدّم بياناً يستنكر ترك الختان ولكن يرفض مجازاة تاركيه، قرّرت الجمعية أن تترك الموضوع دون بيان واكتفت بالطلب من رجال الدين أن يحتفظوا بسجلات للختان كل في طائفته. وفي اجتماعهم الثاني في عام 1845، لم يتمكّن رجال الدين اليهود اتخاذ قرار في موضوع لزوم الختان. ولمّا اشتكى أحد الأطبّاء من انتقال الأمراض المعدية بسبب الختان، ناقش الاجتماع الموضوع في جلسة مغلقة ورفض الشكوى قائلاً بأن غيره من الأطبّاء لا يوافق على ادعائه وأن السلطات المدنيّة تحاول أن تستبعد من لا خبرة له من إجراء تلك العلميّة. وفي اجتماعهم الثالث والأخير عام 1846 تفادى أيضاً رجال الدين اليهود المجدّدون أخذ قرار بخصوص لزوم الختان. وقد أثار أحد الأطبّاء موضوعاً شخصياً حيث أن أحد أبنائه قد أصيب بنزيف دم بعد ختان ابنه الأوّل لم يشفى منه بعد، وأن ابنه الثاني مات بسبب الختان. فهل يسمح له رجال الدين أن لا يختن ابنه الثالث وأن يكتفي بإعطائه اسما يهوديّاً في المعبد؟ عندها قرّر رجال الدين التخفيف من القاعدة التلموديّة التي لا تعفي من الختان إلاّ في حالة موت ولدين بسبب الختان. فبدلاً من موت طفلين، اكتفوا بموت طفل واحد لإعفاء الطفل الثاني من الختان. كما قرّرت الجمعية أن لا يمص الخاتن دم الطفل بعد ختانه . وسوف نرى أن المص بالفم ما زال يمارس عند اليهود رغم أن بعضهم قد اختار المص بأنبوب أو قطن.
وقد امتد نقد الختان من ألمانيا إلى فينا حيث قام ما لا يقل عن 66 طبيباً يهوديّاً في عام 1866 برفع عريضة لمجمع الطائفة اليهوديّة هناك يعارضون فيها ممارسة الختان. ولكن رجال الدين اليهود اختلفوا فيما بينهم بسبب عواقب إلغاء الختان إذ منهم من يعارض تزويج امرأة يهوديّة لرجل غير مختون. وفي عام 1871 جاء القرار الآتي من المجمع اليهودي المنعقد في مدينة «اوجسبورج»: «إذ يقر المجمع أنه لا شك في المعنى السامي والهام للختان في اليهوديّة، إلاّ أنه يقر أيضاً بأن الطفل الذي يولد من أم يهوديّة ولم يختن لأي سبب كان هو طفل يهودي ويجب أن يعامل كذلك في كل المواضيع المتعلّقة بالطقوس الدينيّة». وقد جاء هذا الموقف رداً على تزايد عدد الأطفال اليهود غير المختونين في ألمانيا والنمسا .
وقد انتقل هذا التيّار المجدّد من ألمانيا مع المهاجرين اليهود إلى الولايات المتّحدة. وقد توصّل إلى قرار مشابه رجال الدين اليهود المجدّدين في فيلاديلفيا عام 1869. وقد أثير هناك أيضاً موضوع ختان الذي يتحوّل إلى اليهوديّة. وقد اختلف رجال الدين اليهود فيما بينهم. فبينما رأي البعض عدم ضرورة الختان، إلاّ أن القرار كان بضرورة ختان من يتحوّل لليهوديّة لأنه «يُدخل في اليهوديّة أموراً كثيرة غير طاهرة» ولأن الختان «يحمي اليهوديّة من تلك النجاسات». وقد انقلب الوضع عام 1892 حيث قرّر رجال الدين اليهود المجدّدين عدم فرض الختان على من يتحوّل إلى اليهوديّة .
والأسباب التي من أجلها طالب المجدّدون ترك الختان والتي من أجلها أهمل بعض اليهود ختان أطفالهم يمكن إجمالها فيما يلي:
1) إن الأمر الإلهي بالختان موجّه إلى إبراهيم، أمّا موسى فلم يؤمر بالختان وهو لم يختن ابنه البكر.
2) إن جيل التيه الذي عاش في الصحراء لم يختتن.
3) إن الختان لم يعد عادة تميّز اليهود، إذ يمارسه أيضاً المسلمون.
4) لم يذكر الختان إلاّ مرّة واحدة في قوانين موسى ولم يتم ذكره في سفر تثنية الاشتراع.
5) لا يوجد ختان مماثل للنساء.
6) إن اليهودي هو من يولد من أم يهوديّة وليس من يختن.
7) المخاطر الطبّية لعمليّة الختان.
8) مساس الختان بالعضو التناسلي: اعتبر المجدّدون أنهم يتّبعون اليهوديّة ذات الطابع النبوي. وأرميا تكلّم عن ختان القلب ذات التطبيق العام. أمّا الختان فإنه كان يمارس من قبائل بدائيّة مختلفة. وهم يرون أن الديانة يجب أن تهتم بأمور روحيّة تسمو على قطع العضو التناسلي.
9) الختان علامة تميّز اليهودي عن المسيحي وتبقيه في حالة التقوقع التي يعيشها اليهود في المجتمع المسيحي الذي كان يريد إدماج الأفراد وكسر التقوقع الطائفي.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال