هل مارس اليهود دائماً الختان.. عدم الختان بسبب المناخ الصحراوي القاسي الذي لا يسمح بعمل الختان على الأطفال دون تعرّضهم لضرر في صحّتهم

توحي لنا نصوص التوراة أن الختان قد بدأ بإبراهيم الذي يُظن أنه عاش في القرن التاسع عشر قَبل المسيح. ولكن هناك شواهد تبيّن أن يهود مصر لم يكونوا يمارسون الختان بصورة شاملة. فسفر الخروج يخبرنا أن موسى هرب من مصر واتّجه إلى مدين حيث تزوّج بصفّورة ابنة كاهنها فأنجب منها ولدين، هما جرشوم واليعازر (خروج 15:2-22 و3:18). ثم رجع مع زوجته وابنيه إلى مصر. وفي طريقه إلى مصر ظهر له الله فطلب قتله. فأخذت صفّورة صوّانة وقطعت غلفة ابنها ومسّت به رجلي موسى وقالت: «إنك لي عريس دم. فانصرف عنه (خروج 19:4-26). وهذا النص يبيّن أن موسى لم يكن مختوناً، وأن ولديه لم يكونا مختونين في الوقت الذي حدّدته التوراة (اليوم الثامن)، وأن صفّورة ذات الأصل غير اليهودي ختنت فقط واحداً من ولديها بصوّانة، وقد يكون الابن البكر. فالنص يتكلّم عن رجوع موسى مع ابنيه بصيغة المثنى (خروج 20:4)، بينما يتكلّم عن ختان صفّورة لابنها بصورة المفرد (خروج 25:4). وهناك رواية يهوديّة تقول إن اليهود قَبل خروجهم من مصر قد تركوا ممارسة الختان واختلطوا بغير اليهود. ولم يبقى ممارساً لهذه العادة إلاّ سبط لاوي. وترك اليهود عادة الختان أغضب الله فغيّر حب المصريّين لليهود إلى بغض.
ويروي لنا سفر يشوع أن اليهود الذين ولدوا في البرّية بعد خروجهم من مصر لم يختنوا في صغرهم. وقد جاء أمر الله ليشوع بختانهم في البرّية (يشوع 2:5-9). ويعتمد المؤلّفون اليهود في أيّامنا على التلمود لشرح أن عدم الختان هذا كان بسبب المناخ الصحراوي القاسي الذي لا يسمح بعمل الختان على الأطفال دون تعرّضهم لضرر في صحّتهم، ولأنهم لم يكونوا يعرفون متى يجب عليهم أن يكمّلوا مسيرتهم في الصحراء . وقد أعيد أمر ختان الذكور في سفر الأحبار: «وفي اليوم الثامن تختن غلفة المولود» (الأحبار 3:12)، وهي آية تعتبر مدسوسة على النص الأصلي أدخلها الكهنة في عصور لاحقة بعد المنفى لتأييد شريعة الختان.
ونحن نجد في بعض نصوص التوراة استعمالا مجازياً للختان. ففي سفر التكوين يرتبط وعد أرض الميعاد لإبراهيم ونسله بختان الذكر، بينما في سفر تثنية الاشتراع يرتبط هذا العهد بختان القلب (تثنية 5:30-6). وفي فصل آخر نقرأ: «والآن يا إسرائيل، ما الذي يطلبه منك الرب إلهك إلاّ أن تتقي الرب إلهك سائراً في جميع طرقه ومحباً إيّاه، وعابداً الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك [...]. فاختنوا غلف قلوبكم، ولا تقسّوا رقابكم بعد اليوم» (تثنية 12:10 و16). وفي سفر الأحبار يتوعّد بإهلاك وإذلال قلوب اليهود الغلف بسبب إثمهم (الأحبار 38:26-41). وسفر أرميا يقول إن الله يعاقب على السواء غير المختونين في الجسد من الأمم واليهود المختونين في الجسد ذوي القلوب الغلف (عرلي لب): «ها إنها تأتي أيّام، يقول الرب، أعاقب فيها كل المختونين في أجسادهم. مصر ويهوذا وأدوم وبني عمون وموآب، وكل مقصوصي السوالف الساكنين في البرّية، لأن كل الأمم غلف، وكل بيت إسرائيل غلف القلوب» (أرميا 24:9-25).
وقد استعملت التوراة كلمة «غرلة» متّصلة مع كلمة الشفاه. فموسى يقول عن نفسه إنه «عرل شفتيم»، وقد تُرجمت بثقيل اللسان، أي يتعثر بكلامه (الخروج 12:6 و30).
وأرميا يستعمل كلمة «غرلة» متّصلة بكلمة الآذان: «من ذا أكلّم ومن أشهد عليه فيسمعوا. ها إن آذانهم غلف فلا يستطيعون الإصغاء. ها إن كلمة الرب صارت لهم عاراً لا يهوونها» (أرميا 10:6).
والمؤلّف اليهودي «فيلون» يرى أن الختان يقع على أمرين: أوّلاً ختان الجسد وختان الذكر. ختان الجسد يتم بقطع الغرلة، وختان الذكر، يتم على مستوى الفكر. فالذكر الحقيقي هو العقل الذي فينا والذي يجب تهذيبه ببتر ما لا فائدة فيه فيتطهّر من كل شر وكل شهوة فيتمكّن هكذا من ممارسة الكهنوت الإلهي. وهذا ما تشير إليه الآية: «أزيلوا غلف قلوبكم» (أرميا 4:4) .
هناك إذاً بجانب ختان غلفة الذكر ختان الشفتين وختان القلب وختان الآذان. وهو تعبير عن تطهير النفس وعدم اقتراف الإثم بتلك الأعضاء. وقد يكون هذا تطوّراً لاحقاً للختان الجسدي، أو سابقاً له، أو تيّاراً فكريّاً موازياً له يرفض النظر إلى المظاهر الخارجيّة. وسوف نرى لاحقاً أن الكتب المقدّسة المسيحيّة قد تخطّت ختان الجسد واستبدلته بختان القلب.
هذا ويرى المؤلّف اليهودي «هوفمان» أن الختان لم يصبح إجباريّاً عند اليهود إلاّ بعد الرجوع من المنفى أي في القرن السادس قَبل المسيح. وهو يعتمد على عدم وجود أثر للختان في سفر أشعيا الذي سبق المنفى إلاّ في الفصلين 25 و56 وهما فصلان أضيفا إلى سفر أشعيا بعد المنفى. والختان قد تم فرضه من قِبَل الكهنة الذين سيطروا على الشعب فكتبوا النصوص الخاصّة بالختان بصيغة الأمر، منها النص الخاص بختان إبراهيم (التكوين فصل 17) والنص الخاص بالزواج (التكوين: الفصل 34) والنص الخاص بالطهارة (الأحبار: الفصل 12).
وفرض الختان على الشعب من قِبَل الكهنة لم يلقَ قبولاً كاملاً. فهناك من رفض ممارسته. وتذكر رواية يهوديّة أن أقدم محاولة لرفض ختان الذكور هي تلك التي قام بها عيسو ابن إسحاق بإلغاء ختانه بشد الغلفة لإطالتها (epispasm). وعيسو هو في نظر الكتاب المقدّس (التكوين فصل 25 و27 و28) وفي نظر الروايات اليهوديّة الرجل المرذول من الله. ورواية أخرى تقول إن أولاد عيسو استخفوا بالختان بعد موت أبيهم .
وتذكر التوراة أن الختان قد منع من قِبَل ملك إسرائيل آحاب (875-853 ق.م) وزوجته إيزابيل، ابنة كاهن من كهنة عشتروت الذي تولّى السلطة في صور. وفي هذا الإطار نقرأ قول إيليّا في سفر الملوك الأوّل: «إني غرت غيرة للرب، إله القوات، لأن بني إسرائيل قد تركوا عهدك وحطّموا مذابحك وقتلوا أنبياءك بالسيف، وبقيت أنا وحدي، وقد طلبوا نفسي ليأخذوها» (1 ملوك 9:19-10) . وإشارة إلى هذا القول، يقوم اليهود بوضع كرسي لإيليّا كشاهد للختان، كما سنرى لاحقاً.
ويروي لنا سفر المكابيين الأوّل أنه «خرج من إسرائيل أبناء لا خير فيهم فأغروا كثيرين بقولهم: هلمّوا نعقد عهداً مع الأمم التي حولنا، فإنّنا منذ انفصلنا عنهم لحقتنا شرور كثيرة» (1 المكابيين 11:1). وبناء على طلبهم، تم منع الختان من قِبَل الملك انطيوخس (توفّى عام 164 ق.م). فترك اليهود الختان ومنهم من ألغى علامة الختان بمد جلد الذكر لاسترجاع الغلفة (1 المكابيين 15:1 و48). وقد قاد رجال الدين ثورة على القوانين التي تمنع الختان وختنوا «بالقوّة كل من وجدوه في بلاد إسرائيل من الأولاد الغلف» (1 المكابيين 46:2). وهكذا لم يكن رجال الدين اليهود أكثر تسامحاً من القوانين التي تمنع الختان.
ونجد تيّاراً مماثلاً في القرنين اللاحقين للميلاد ممّا جعل رجال الدين اليهود يتشدّدون في الختان ويتمادون في القطع حتّى يمنعوا استرجاع الغلفة وإخفاء الختان كما سنرى لاحقاً. وتقول رواية يهوديّة إنه لو لم تكن هناك عادة استعادة الغلفة لما كان الهيكل قد خرب. وتروي هذه الرواية أن إبراهيم حاول التدخّل عند الله لمنع خراب الهيكل ولكن الله رفض وساطته لأن علامة العهد قد ألغيت . وسوف نعود لعمليّة استرجاع الغلفة هذه في الجزء الطبّي.
ويرى المؤلّفون اليهود والمتعاطفون معهم أنهم وقعوا في الماضي ضحيّة اضطهادات وقوانين جائرة من قِبَل الأمم الأخرى وأن التعدّي على الختان شكل من أشكال التعدّي على اليهود (وهو ما يطلقون عليه معاداة الساميّة). وعبثاً تبحث عند هؤلاء المؤلّفين عن نظرة متفحّصة للموقف اليهودي تجاه تلك الأمم التي اضطهدتهم لمعرفة ما إذا كان هذا العداء لليهود يقابله عداء من اليهود نحو تلك الأمم. ويكفي هنا النظر في الكتب اليهوديّة للبرهنة على أن اليهود لم يكونوا بحد ذاتهم أبرياء، وأنهم لا يختلفون عن غيرهم. فهذه كتبهم المقدّسة تبيّن أن اليهود ينظرون إلى غير اليهودي نظرة احتقار ويكِنّون له العداء. وهؤلاء المؤلّفون يصوّرون لنا أن اليهود إذا ما تركوا الختان في ماضيهم، فإن ذلك كان نتيجة الاضطهاد والقوانين الجائرة. وهم يعتبرون أبطالاً أولئك الذين تمسّكوا بالختان وضحّوا بحياتهم في سبيله. ولكنّهم لا يطرحون السؤال الآخر، وهو ما إذا كان الختان الذي مارسه اليهود كان فعلاً اختياريا أم كان مفروضاً عليهم من قِبَل رجال الدين الذين سيطروا عليهم. وقد رأينا أن اليهود قد فرضوا الختان على الأطفال والعبيد ومن يصاهرهم. واعتبروا غير المختونين نجساً واحتقروهم، كما أن بعض الذين خضعوا للسيطرة اليهوديّة تم ختانهم جبراً أو خوفاً من سطوة اليهود. ولم يكن رجال الدين اليهود، كلّما كانت السلطة بين أيديهم، يتسامحون مع اليهود الذين يريدون ترك الختان.
وفي عصرنا هذا ما زال المؤلّفون اليهود ينظرون لليهود الذين مُنعوا من ممارسة الختان في الاتحاد السوفييتي كضحايا وأن أوّل مطلب لهم بعد خروجهم من بلدهم هو ختانهم وختان أطفالهم . ولكن هل اختار اليهود السوفييت عند خروجهم بكل حرّية ممارسة الختان عليهم وعلى أطفالهم؟ فمن المعروف أن رجال الدين اليهود فرضوا الختان عليهم كشرط لحصولهم على الإقامة في إسرائيل والاستفادة من المعونات اليهوديّة، خاصّة داخل إسرائيل حيث سيطرة رجال الدين في أوجّها . ومن المعروف أيضاً أن من يرفض ختان ابنه من اليهود يلقى معارضة شديدة من قِبَل محيطه العائلي، حتّى في دولة متحرّرة مثل الولايات المتّحدة . ولذلك يمكننا أن نقول إن القوانين «الجائرة» التي كانت تمنع اليهود من الختان يقابلها في حقيقة الأمر قوانين يهوديّة لا تقل جوراً تفرض الختان. فهناك إذاً صراع بين سلطتين: سلطة الدولة الحاكمة التي كانت ترى في الختان تعبيراً عن ترفع اليهود على الغير وشكل من أشكال التعدّي على سلامة الجسد، وسلطة رجال الدين اليهود الذين كانوا يريدون أن ينفردوا بالشعب معتبرين غير المختونين نجساً، يهوداً كانوا أو غير يهود.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال