الجدل ضد الختان قديماً.. الختان ليس لتكميل نقص الخِلقة بل لتكميل نقص الخُلق

لقد صوّر لنا رجال الدين اليهود في كتبهم المقدّسة أن الختان فريضة إلهيّة. وإن ذكروا بين الحين والآخر إهمال أو رفض بعض اليهود للختان، فإنهم تناسوا ذكر آرائهم، لا بل نعتوا معارضي الختان بأبشع الأوصاف كما ذكرنا سابقاً. إلاّ أننا نجد بعض الآثار للجدل ضد الختان ليس بين اليهود أنفسهم، بل بين اليهود وغير اليهود. فقد نقلت لنا بعض الكتب اليهوديّة ذلك الجدل الذي ينتهي دائماً، حسب روايتهم، إلى إفحام معارضيهم. ونحن نذكر بعض ما عثرنا عليه مع الأمل أن يقوم غيرنا من الباحثين بإكمال هذا البحث.
سأل الملك «أجريبّا» «رابي اليعازر» لماذا لم يذكر الله الختان ضمن الوصايا العشر إذا كان الختان مُهمّاً جدّاً. فأجابه أن الختان أُعطي قَبل الوصايا العشر. وقد اعتمد في ذلك على الآية الآتية: «والآن، إن سمعتم سماعاً لصوتي وحفظتم عهدي، فإنكم تكونون لي خاصّة من بين جميع الشعوب، لأن الأرض كلّها لي. وانتم تكونون لي مملكة من الكهنة وأمّة مقدّسة» (الخروج 5:19-6). والعهد هنا يعني عهد الختان وهذا النص جاء قبل أن تنزل الوصايا العشر التي ذكرت في الفصل 20 من سفر الخروج.
وتروي لنا رواية يهوديّة جدلاً بين رابي عكيفا ومن تسمّيه «روفس الطاغية». فقد سأل هذا الأخير رابي عكيفا: ما هو أفضل: عمل الله أم عمل الإنسان؟ فقال رابي عكيفا: عمل الإنسان. فقال له الطاغية: أنظر إلى السماء والأرض، هل يمكن لأحد أن يصنع مثلهما؟ فقال رابي عكيفا: لا تتكلّم عن أمور هي أعلى من الإنسان الفاني ولا قدرة له عليها، بل اسأل عن أمور يقدر عليها الإنسان. فقال له الطاغية: لماذا تختن نفسك؟ فقال رابي عكيفا: كنت أعرف بأنك ستسألني هذا السؤال. ولذلك أجبتك بأن عمل الإنسان هو أفضل من عمل الله. فأخذ رابي عكيفا سنبلة قمح ورغيف خبز وقال: هذه السنابل هي من عمل الله، وهذا الخبز هو من عمل الإنسان. أليس رغيف الخبز أفضل من سنابل القمح؟ ثم احضر ساقا من الكتّان وثوباً صنع في بيسان وقال: ساق الكتّان هذا هو من صنع الله، وهذا الثوب من الكتّان هو من صنع الإنسان. أليس ثوب الكتّان يستحق تقديراً أكبر من ساق الكتّان؟ فقال عند ذلك الطاغية: إذا كان الله يريد الختان، فلماذا لم يخلق الطفل من بطن أمّه مختوناً؟ فأجاب رابي عكيفا: لماذا الحبل السُري يخرج متعلّقاً مع الطفل؟ ألم يكن من الأفضل أن يولد الطفل وحبله السري مقطوعاً؟ وأمّا بخصوص سؤالك لماذا لا يولد الطفل مختوناً، فالجواب هو لأن الله أعطى الأمر للإسرائيليين لكي يتطهّروا.
ونحن نجد فكرة إكمال خلق الله في رواية أخرى ترويها لنا «بريشيت رابّا»، وهي «مدراش» فلسطيني من القرن الخامس الميلادي. ففي تعليق على سفر التكوين، يقول «رابي يهوذا»: إن عيب ثمرة التين في قمعها. افصل قمعها منها فتصبح كاملة. وهكذا فإن الله قد قال لإبراهيم: عيبك في غرلتك. اقطعها فيزال عيبك. «سر أمامي وكن كاملاً» (التكوين 1:17). وقال «رابي ليفي»: يمكن أن نشبّه الأمر بسيّدة شريفة قال لها الملك: سيري أمامي. وبينما هي تمر، اصفر وجهها خجلا ظانة أنه هناك عيب فيها. فقال لها الملك: لا عيب فيك إلاّ ظفر إصبعك الصغير فهو طويل. قصيه فيزال عيبك. وهكذا فإن الله قد قال لإبراهيم: عيبك في غرلتك. اقطعها فيزول عيبك. «سر أمامي وكن كاملاً».
في هاتين الروايتين الأخيرتين فسّر الختان وكأنه عمليّة تجميليّة الغاية منها تكميل خلق الله. ولكن هذا يتناقض مع موقف الكتاب المقدّس اليهودي الذي يعتبر قطع جزء من الجسم انقاص له. فالذبيحة التي تقدّم محرقة لله يجب أن تكون تامّة: «لكي يرضى عنكم يجب أن يكون ذكراً تامّاً من البقر أو الضأن أو المعز. ولا تقرّبوا ما به عيب، فإنه لا يرضى به عنكم» (الأحبار 19:22). كما أن الكتاب المقدّس اليهودي يمنع خدش الجلد والوشم عامّة: «وخدشاً من أجل ميّت لا تضعوا في أبدانكم، وكتابة وسم لا تضعوا فيكم» (الأحبار 28:19). وفي مكان آخر: «انتم أبناء للرب، فلا تصنعوا شقوقاً في أبدانكم» (تثنية 1:14). وقد تشدّد الكتاب المقدّس بخصوص الكهنة: «أي رجل من نسلك مدى أجيالهم كان به عيب، فلا يتقدّم ليقرّب طعام إلهه. فإن كان رجل به عيب لا يتقدّم: الأعمى والأعرج والمشوّه وسقيم البنية، والذي به كسر رجل أو كسر يد، والأحدب والضامر والذي في عينيه بياض، والأجرب ومن به القوباء ومرضوض الخصية. كل رجل به عيب من نسل هارون الكاهن لا يتقدّم ليقرّب الذبائح بالنار للرب: إنه به عيب. فلا يتقدّم ليقرّب طعام إلهه» (الأحبار 17:21-21) أنظر أيضاً الأحبار 5:21 وتثنية 2:23. وهناك قصّة تقول إن أحد الكهنة قد أبعد عن خدمة يوم الغفران لأن أحد خصومه عضه في أذنه.
وقد حاول «رابي اشماعيل» تبرير عدم تأثير قطع الغرلة على كمال الشخص: إن إبراهيم كان كاهناً أكبر حسب قول سفر المزامير: «أقسم الرب ولن يندم: أن أنت كاهن للأبد على رتبة ملكيصادق» (المزامير 4:110) وفي مكان آخر تقول التوراة: «فتختنون في لحم غلفتكم» (التكوين 11:17). ولو ختن إبراهيم في أذنه أو في فمه، لكان ذاك عيب يمنعه من تقديم الذبيحة. أمّا ختانه في غرلته فهذا لا يمنعه من تقديم الذبيحة. وأضاف رابي عكيفا أن كلمة الغرلة تنطبق على غلفة العضو التناسلي، والشفتين والآذان والقلب. ولكن الله قال لإبراهيم: «سر أمامي وكن كاملاً». فلو قطع إبراهيم فمه أو أذنيه أو قلبه لكان غير كامل. ولكن بقطعه غرلة ذكره فإنه أصبح كاملاً. ممّا يعني أنه هناك اختلاف بين قطع غرلة الذكر وبتر عضو آخر من جسم الإنسان.
ونظريّة كمال خلق الله هي أحد الأسباب التي من أجلها يُرفَض الختان في أيّامنا. ونحن نجد تأكيداً على هذه النظريّة عند المؤلّف اليهودي «فيلون» في تعليقه على الآية «وإن صنعت لي مذبحاً من حجارة، فلا تبنيه بالحجر المنحوت، فإنك إن رفعت حديدك عليها دنّستها» (خروج 25:20): «إن الذين يريدون أن يغيِّروا ويشكِّلوا أعمال الطبيعة يدنّسون ما لا يحق تدنيسه. فإن أمور الطبيعة كاملة وسويّة، ولا تحتاج إلى بتر أو إضافة بأي شكل من الأشكال» . ولكن «فيلون» لم يستطع متابعة فكرته، وإلاّ لكان توصّل إلى نقد الختان، وهو ما لا يريد الوصول إليه. فكتبه هي مجرّد تبرير للتوراة بحيل كلاميّة.
وقد رفض موسى ابن ميمون تفسير رجال الدين اليهود القدامى في أن الختان يكمّل خلق الله. فهو يرى أن القصد من الختان هو تأذية وإضعاف العضو التناسلي لانقاص الشهوة الجنسيّة عند الرجل، أو حسب تعبيره «نقص الكَلَب والشره الزائد على ما يحتاج»، وفي نفس الوقت انقاص لذّة المرأة في العلاقة الجنسيّة مع الرجل المختون. ويذكر برهاناً على انقاص لذّة المرأة قول الحُكماء «أنه من الصعب أن تفارق المرأة الأغلف الذي جامعها». وهكذا يكون الختان ليس « لتكميل نقص الخِلقة، بل لتكميل نقص الخُلق» .
وقصد ابن ميمون هو إثبات أن كل أمر في التوراة له عِلّة وحِكمة خفيّة. فهو يقول: «كل أمر أو نهي شرعي تخفى عنك عِلّته إنّما هو طب مرض من تلك الأمراض التي ما بقينا اليوم نعلمها، والحمد لله على ذلك. هذا هو الذي يعتقده من له كمال ويحقّق قوله تعالى: ولم أقل لذرّية يعقوب التمسوني عبثاً» (أشعيا 19:45) . ولنا عودة لعلاقة الختان باللذّة الجنسيّة في الجزء الطبّي.
وموضوع مخالفة الختان لمبدأ كمال خلق الله ما زال يُطرح حتّى في أيّامنا. فقد سُئل رجل دين محافظ: «لماذا لم يخلق الله ذكر الإنسان دون غلفة إذا لم يكن يرغب في إبقاء هذه الغلفة عليه؟». فأجاب: «إن هذا تخمين. لماذا لم يخلق الله كل الناس كاملين رغم أنه كان بإمكانه خلقهم كذلك إذ إنه قادر على كل شيء؟ لماذا بعض الأفراد عندهم حدبة ثم نصلحهم؟ لقد كان من الممكن أن يكونوا أصحّاء من البداية. قد يقول لك البعض إن الله خلق الذكر في تلك الصورة لأنه كان يريد أن يمتحن اليهود أنفسهم ويأخذوا على عاتقهم بعض الواجبات والتضحيات. ليس بمعنى أننا نقدّم الغلفة قرباناً، بل نقدّم الألم وعدم الرفاهيّة. وسؤالك هو كمن يسأل لماذا لم يخلق الله الإنسان بارع ومتطوّر؟ لماذا عليه أن يولد طفلاً ثم ينمو؟» . وهذا الجواب ينقصه المنطق. فمن جهة يعتبر وجود الغلفة (التي هي عامّة في كل ذكر) مثل تشويه الأحدب (وهو أمر شاذ). ومن جهة أخرى، فإنه يضع اليهود في موقع متعال بإعطائهم واجباً إلهيا فرض عليهم دون غيرهم. ومن جهة ثالثة، يتغاضى هذا الجواب عن دور الغلفة الوظيفي في الجسم. أضف إلى ذلك أنه لا يأخذ بالاعتبار قضيّة التعدّي على سلامة جسم شخص قاصر دون سبب طبّي. وفي نفس المقابلة يرى رجل الدين هذا في الختان أمراً يسيراً يشبّهه بضربة على خد الطفل بعد ميلاده.
ونشير أخيراً إلى حوار جاء في مدراش «بريشيت رابّا» من القرن الخامس الميلادي بين إبراهيم والله. فقد سأل إبراهيم الله: إذا كان الختان بتلك الأهمّية، لماذا لم تعطه لآدم؟ وأضاف: قبل أن اختن تبعني أناس. فهل تظن بأنهم سيستمرّون بإتّباعي بعد ختاني؟ وكان رد الله عليه: «يكفيك أني إلهك». وهذا الحوار الذي تصوّره رجال الدين اليهودي هو تعبير عن الشكوك التي أحاطت الختان في عصرهم .
أحدث أقدم

نموذج الاتصال