أثر نقل الدم على الطهارة.. انتقاض الوضوء بخروج الدم من الجسد من مخرج غير معتاد

مسألة سحب الدم من الجسد الآدمي ليست مسألة حادثة، بل هي مسألة كانت معروفة قديما باسم الفصد والحجامة ([1])، لكن الجديد فيها هو نقل الدم المستخرج إلى إنسان آخر محتاج إليه، وقد تكلم الفقهاء عن انتقاض الوضوء بخروج الدم من الجسد من مخرج غير معتاد، فلنعرض لآرائهم، ومن ثم نخرج حكم نقض الوضوء بسحب الدم.

اختلف الفقهاء في حكم نقض الوضوء بخروج الدم من غير السبيلين إلى قولين:

القول الأول:
ينتقض الوضوء بخروج النجاسة إذا سالت عن موضعها؛ كالدم والرعاف الكثير والفصد والحجامة والقيء، وإليه ذهب الحنفية ([2]) والحنابلة ([3])، وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب وعلقمة وعطاء وقتادة والثوري وإسحاق([4]).

ومن جملة ما استدلوا به:
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله (ص) قال: "الوضوء مما يخرج وليس مما يدخل" ([5]).
 وجه الدلالة أنه علق الحكم بكل ما يخرج أو بمطلق الخارج من غير اعتبار المخرج، إلا أن خروج الطاهر ليس بمراد، فبقي خروج النجس مرادا ([6]).

مناقشة الدليل:
هذا الحديث لا يحتج به، وعلى فرض صحته فإنه يحمل على الوضوء مما خرج من السبيلين.

2- عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله  (ص) قال: "إذا قاء أحدكم في صلاته أو قلس فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن على ما مضى من صلاته ما لم يتكلم" ([7]).

دل الحديث على وجوب الوضوء بخروج النجاسة، من غير السبيلين، ولما كان خروجها من السبيلين ناقض للوضوء باتفاق دل ذلك على أن انتقاض الوضوء يكون بخروج النجاسة من أي موضع؛ من السبيلين أومن غيرهما.

مناقشة الدليل:
هذا الحديث لا يحتج به؛ لضعفه.

3- حديث فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها قالت: يا رَسُولَ اللَّهِ إني لَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فقال رسول اللَّهِr: "إنما ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ، فإذا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ، فإذا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي" ([8]) وجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم أمرها بالوضوء معللا ذلك بانفجار الدم من العرق لا بكونه خرج من السبيلسن.

مناقشة الدليل:
الحديث صحيح، وهو يدل على انتقاض الوضوء بخروج شيء من أحد السبيلين، ولا يدل على ما ذهبتم إليه؛ لأنه من المعلوم أن دم الحيض والاستحاضة يخرجان من المخرج المعتاد، فتكون علة الوضوء خروج النجاسة من المخرج المعتاد.

4- وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه عن رسول اللَّهِ (ص) أَنَّهُ قال: "الْوُضُوءُ من كل دَمٍ سَائِلٍ"([9]).
وجه الدلالة: بين الحديث أن الوضوء يجب بسيلان الدم دون تمييز بين مخرج الدم.
مناقشة الدليل: الحديث ضعيف لا تقوم به حجة، وعلى فرض صحته فيحمل على خروج الدم من المخرج المعتاد.

5- ولأن الخروج من السبيلين إنما كان حدثا؛ لأنه يوجب تنجيس ظاهر البدن؛ لضرورة تنجس موضع الإصابة، فتزول الطهارة ضرورة ([10]).

أما ما ذهبوا إليه من التفريق بين الخارج اليسير والفاحش، فدليله:
قول ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا كان الدم فاحشا فعليه الإعادة وإن كان قليلا فليس عليه إعادة )([11])، أي عليه إعادة الصلاة.
القول الثاني: لا ينتقض الوضوء بخروج الدم من غير السبيلين؛ قلّ الخارج أو كثر، وإليه ذهب المالكية([12]) والشافعية([13]) والظاهرية([14]).

ومن جملة ما استدلوا به:
1- عن أنس بن ما لك قال: احتجم رسول الله (ص) فصلى ولم يتوضأ ولم يزد على غسل محاجمه ([15]) .

2- ولأن الوضوء ليس على نجاسة ما يخرج؛ ألا ترى أن الريح تخرج من الدبر ولا تنجس شيئا فيجب بها الوضوء كما يجب بالغائط، وأن المني غير نجس والغسل يجب به، وإنما الوضوء والغسل تعبد([16]).

بناء على ما سبق يتخرج للعلماء قولان في انتقاض الوضوء بسحب الدم؛ فينتقض وضوء المسحوب منه عند الحنفية والحنابلة، ولا ينتقض وضوؤه عند المالكية والشافعية والظاهرية، وهو الراجح بناء على القول الذي ترجح لدينا في طهارة الدم المسحوب، أما المنقول إليه الدم فلم يقل أحد بانتقاض الوضوء بما يدخل جسم الإنسان، ومن ثم فلا يعد نقل الدم ناقضا للوضوء في حق المنقول إليه، والله تعالى أعلم

([1]) الفصد والحجامة حقيقتهما استخراج الدم من جسم الإنسان. ابن منظور، لسان العرب، ج3، ص336.
الفصد شق العرق فصده يفصده فصدا وفصادا فهومفصود وفصيد وفصد الناقة شق عرقها ليستخرج دمه فيشربه، لسان العرب ج9، ص326.
ونزفه الحجام ينزفه وينزفه أخرج دمه كله ونزف دمه نزفا فهو منزوف ونزيف هريق ونزف فلان دمه ينزفه نزفا إذا استخرجه بحجامة أو فصد.

([2]) المرغيناني، الهداية ج1، ص14، الكاساني، بدائع الصنائع، ج1، ص24.
([3]) ابن قدامة، المغني، ج1، ص119.
([4]) المرجع السابق.

([5]) الدارقطني، سنن الدارقطني، كتاب الطهارة، باب في الوضوء من الخارج من البدن ج1،ص151، حديث رقم 56،  البيهقي، سنن البيهقي الكبرى، كتاب الصيام، باب الإفطار بالطعام وبغير الطعام إذا ازدرده عامدا، ج4، ص261، حديث رقم 8042، قال ابن عبد الهادي الحنبلي: في إسناده شعبة مولى ابن عباس قال مالك والنسائي: ليس بثقة وقال يحيى: لا يكتب حديثه. انظر، ابن عبد الهادي، تنقيح تحقيق أحاديث التعليق، ج1، ص177.

([6]) الكاساني، بدائع الصنائع، ج1، ص24.
([7]) الدارقطني، سنن الدارقطني، كتاب الطهارة، باب في الوضوء من الخارج من البدن، ج1، ص153، حديث رقم 11، البيهقي، السنن الكبرى، كتاب صلاة الجنازة، باب الدعاء في صلاة الجنازة، ج1، ص142، حديث رقم 652. الحديث ضعيف. ابن حجر، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، الدراية في تخريج أحاديث الهداية، تحقيق السيد عبد الله هاشم اليماني المدني، دار المعرفة، بيروت، د.ط، د.ت، ج1، ص31.

([8]) البخاري، الجامع صحيح، كتاب الحيض، باب الاستحاضة، ج1، ص117، حديث رقم .300
([9]) سبق تخريجه هامش 52.
([10]) المرغيناني، الهداية، ج1، ص14.

([11]) البيهقي، السنن الكبرى، كتاب الطهارة، باب ما يجب غسله من الدم، ج2، ص405، حديث رقم 3903. إسناده صحيح انظر، الطّريفي، عبد العزيز بن مرزوق، التحجيل في تخريج ما لم يخرج في إرواء الغليل، ومثله ابن أبي شيبة، مصنف ابن أبي شيبة، ج1، ص128، حديث رقم 1469، البيهقي، السنن الكبرى، ج1، ص141، حديث رقم 650 حدثنا عبد الْوَهَّابِ عن التَّيْمِيِّ عن بَكْرٍ قال رَأَيْت بن عُمَرَ عَصَرَ بَثْرَةً في وَجْهِهِ فَخَرَجَ شَيْءٌ من دَمٍ فَحَكَّهُ بين أصبعيه ثُمَّ صلى ولم يَتَوَضَّأْ. إسناده صحيح. انظر، ابن حجر، أحمد بن علي بن محمد بن أحمد العسقلاني (ت852هـ)، تغليق التعليق على صحيح البخاري، تحقيق سعيد القزقي، المكتب الإسلامي، دار عمار، بيروت، ج2، ص120.

([12]) ابن رشد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد ( ت595، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، دار الفكر، بيروت، ج1،ص24، ابن جزي، القوانين الفقهية ص22، الدردير، الشرح الكبير، ج1، ص115.

([13]) الشافعي، الأم، ج1، ص18، الشيرازي إبراهيم بن علي بن يوسف (476هـ /1083م)، المهذب في فقه الإمام الشافعي، بيروت، دار الفكر، ج1، ص24.
([14]) ابن حزم، المحلى، ج1، ص255.

([15]) الدارقطني، سنن الدارقطني، كتاب الطهارة، باب في الوضوء من الخارج من البدن، ج1، ص151، حديث رقم 56، وقال عنه: حديث رفعه ابن أبي العشرين ووقفة أبو المغيرة عن الأوزاعي وهو الصواب. البيهقي، السنن الكبرى، كتاب الطهارة، باب أقل عدد ورد فيمن صلى على جنازة، ج1، ص141، حديث رقم 649. قال البيهقي: في إسناده ضعفاء. البيهقي، السنن الكبرى، ج1، ص140.
قال الدارقطني عن صالح بن مقاتل: ليس بالقوي، وأبوه غير معروف، وسليمان بن داود مجهول، ورواه البيهقي من طريق الدارقطني وقال: في إسناده ضعف. انظر: الزيلعي، نصب الراية، ج1، ص43.
([16]) الشافعي، الأم، ج1، ص18، الشيرازي، المهذب، ج1، ص24.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال