الحرمان والمشكلات الصحية.. العلاقة بين تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والبيئية وبين انتشار الأمراض المتوطنة وارتفاع معدل الإصابة بفقر الدم والأمراض الجلدية والتناسلية

في دراسة هامة كلف بها الباحث في النصف الأول من التسعينيات من قبل المجلس القومي للسكان لدراسة القرى المحرومة  في مصر وعددها 730 قرية، اتضح أن هناك علاقة وثيقة بين نقص الدخل وحرمان هذه القرى من الخدمات الصحية والتعليمية وبين الإحجام عن استخدام وسائل منع الحمل وزيادة متوسط حجم الأسرة، وأن ثمة علاقة وثيقة بين تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والبيئية وبين انتشار الأمراض المتوطنة وارتفاع معدل الإصابة بفقر الدم والأمراض الجلدية والتناسلية.

وهكذا يبدو أن مسألة الخريطة الاجتماعية تثير قضية هامة. وهي قضية التحديات البيئية من حيث طبيعة التحديات الفيزيقية والاجتماعية والثقافية. فالصحة تتوفر حيث تزداد فعالية مواجهة هذه التحديات بينما تنتشر الأمراض في منطقة ما بالنسبة للرجال والنساء، أو بالنسبة لشرائح اجتماعية بعينها كلما قلت مقاومة هذه الشرائح والفئات الاجتماعية للتحديات البيئية ،وقد يتسبب في ذلك نقص الوعي وتدني الخصائص الاجتماعية والثقافية للبشر في هذه المناطق.

والسكان في بعض أنحاء أفريقيا يموتون جوعا ليس بسبب عدم توفر الطعام فحسب -كما يحدث في جنوب السودان وإريتريا وإثيوبيا- بل لأنهم لا يملكون القدرة على شرائه في كثير من الأحيان.

والناس في البلدان النامية عموما حيث يصل حجم السكان تزداد معاناتهم بسبب الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والبيئية.

ففي العراق يتضاعف معدل الوفيات بين الأطفال بسبب الحصار الاقتصادي، وفي أفغانستان لا يحصل المرء على نصيبه من السعرات الحرارية بسبب للحرب الأهلية، وفي انجولا يواجه الملايين خطر التضور جوعا، وفي هايتي ازدادت معدلات وفيات الأطفال بسبب حالة الاضطراب السياسي والاقتصادي، وفي ميانمار يعاني ثلث الأطفال دون الخامسة على الأقل من سوء التغذية بسبب الصراعات العرقية.

أما في السودان فقد أدت الحرب الأهلية لتدمير المزارع ويطلق على بعض المناطق بجنوب السودان مثلث الفقر حيث ترتفع معدلات الوفاة بصورة مضطردة.

وهكذا ترتبط مسألة الخريطة الاجتماعية بقضية البيئة بمعناها الواسع التي تشمل كذلك الوعي الاجتماعي كما ترتبط بالعدالة الاجتماعية والنظام المؤسسي الذي ترسيه الدولة وتحافظ على ترسيخه كما إن القضية أصبحت تستوجب تدخل الهيئات الأهلية والتطوعية إلى جانب الدولة لترسيخ المساواة وكفالة الرعاية الصحية والاجتماعية في ضوء التنمية البشرية المستدامة.

إن الخريطة الاجتماعية للصحة والمرض لا ترتبط بالجغرافيا ولا بالخصائص الاجتماعية والسكانية كالسن والنوع والمستوى التعليمي والمهني والمستوى الاجتماعي الاقتصادي للسكان فحسب، بل إنها تثير كذلك قضية المشكلات البيئية التي يتسبب فيها الإنسان نتيجة لنقص وعيه أو عجزه عن حساب مصاحبات التلوث البيئي وتبعاته المختلفة.

وتطرح في الأساس قضية العدالة الاجتماعية والتفاوت الطبقي وتجسد الآثار المترتبة على السياسات الصحية والاجتماعية، وتلقي الضوء على انساق الاتجاهات والقيم السائدة، وطبيعة الثقافة العامة والثقافات الفرعية ،وشبكة العلاقات الاجتماعية في المجتمعات المختلفة.

ويستحثنا ذلك على متابعة دراسة طبيعة الأمراض التي تصيب الفقراء والشرائح الهامشية في المجتمع، والعلاقة بين المرض والمستوى الاجتماعي والاقتصادي وأنساق القيم، وأن نتتبع تركز بعض الأمراض في مناطق بعينها، ونربط هذا بالبيئة الاجتماعية والسياق الثقافي السائد في المجتمع. وأن نبحث عن العوامل المسببة والآثار اللاحقة للأمراض الجسدية والنفسية والعقلية في ضوء اتصالها بالعدالة الاجتماعية والوعي الاجتماعي الذي يعني وعيا بالوجود الاجتماعي وإدراكاً حقيقياً لقضايا الصحة والمرض بالنسبة لسكان المجتمع في هذا السياق.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال