مفهوم المعرفة.. النفس أثناء جهادها للمعرفة لا تقتصر على أن تكون مرآة تعكس الأشياء لأن الانتقال من المعرفة المشوشة إلى المعرفة الواضحة الجلية

إذا أمعنا النظر في تاريخ مفهوم المعرفة، وجدناه  يتخذ معنيين:
ففي المعنى الأول، يقترن ازدهار المعرفة بتطوير داخلي في النفس، وفى المعنى الثاني، تنحصر المعرفة في ازدياد قدرتنا على الأشياء.

فأما المعنى الأول، فهو ما يبسطه أفلاطون على نحو أسطوري حين يتخيل أن النفس حظيت فيما مضى بحياة في عالم إلهي انصرفت أثناءها إلى تأمل الحقائق الأزلية التي يدعوها المثل وظفرت خلالها بالكمال والسعادة، ثم فقدت النفس بعد ذلك أجنحتها فهبطت إلى الأرض.

على أن حنينا مكتوما لا يفتأ يدفعها إلى استرجاع حالة الكمال وسبيلها إلى ذلك جهاد للمعرفة هو استجماع الذكر لعالم المثل.

ولا يفوتنا أن نلحظ الحقيقة العميقة المستترة في هذا التصوير الأسطوري، فالنفس أثناء جهادها للمعرفة، لا تقتصر على أن تكون مرآة تعكس الأشياء، لأن الانتقال من المعرفة المشوشة إلى المعرفة الواضحة الجلية، ضياء وشفاء للنفس معا.

ولا تقتصر النفس على استقبال المعرفة، وإنما هي مصدر أصيل من مصادرها، وتظهر مفاهيم "التصفية"، والنجاة، والشفاء، وما إليها مقرونة بمفهوم المعرفة لدى أفلاطون ومن بعده لدى ابن سينا وغيره من الفلاسفة المسلمين، ثم في الفلسفة الحديثة لدى اسبينوزا.

أما المعنى الثاني للمعرفة، فهو يختلف عن المعنى الأول، فالمعرفة في المعنى الثاني ليست غاية نسعى إليها، وإنما هي وسيلة للسيطرة على الأشياء.

ويمكن تلخيص المعنى الثاني الذي نادى به "فرنسيس بيكون" ومن بعده "أوجست كونت" في قولنا إذا عرفت استطعت "فبازدياد ثروتنا العقلية، تزداد وسائلنا الفنية والتطبيقية في معالجة مشكلات الحياة المادية والمعنوية.
 ومن الجلي أن العلم الحديث في معالجته الأمر يصدر عن المعنى الثاني للمعرفة.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال